لا أعلم ما دهاني اللحظة !
أخذت أقلب صفحات ذاكرتي لأبحث في طياتها عن أمنيتي التي
تأبى والدتي أن أحققها في حياتي !
بشدة ترفض طلبي اليتيم و أنا آتيها كل مرة مستبشرة أنها ستقبل !
لكني أرتد خائبة في كل مرة و الأمل يحودني أنها ستوافق يوما !
لم تكن أمنيتي الصغيرة و التي كبرت معي سوى :
أن تسمح لي والدتي بالتطوع في الدخول إلى ....
(( غرفة تغسيل الموتى )) .....!
إي والله هي أمنية حياتي أن أرقق قلبي ..
فلا شيء يشعر القلب بالمهابة والخضوع سوى موقف الموت
وجسد مسجى ينساب فوقه الماء بلا حراك !
آآه يا قلب .. ما أقسى نبضك
دنياك ألهتك .. و أغلقت سراديبه بالوهن و الضعف الآسر !
لعل والدتي تخشى علي موقف لحظة ..
لكنها ما فطنت للهدف الأسمى الذي أرنو له .. !
لا بأس .. فلننسى الأمنية و لندفنها كي أرضيها ..
و تأتي الفرصة إلى قلبي الصغير ..
فرصة لم أكن أتخيلها ستوقض شيء في القلب و ترضي شيء من فضولي ..
دخلت علينا معلمتنا الحبيبة في دار التحفيظ
حينها كنت في المرحلة المتوسطة
قالت :
غداً درس في قاعة الدار عن (( طريقة تغسيل و تكفين الميت ))
فمن منكن يا حبيبات تتبرع كي نطبق عليها عمليا ً طريقة لبس الكفن !!؟
وجلت القلوب ..
و تناظرت الطالبات و كأن كل واحدة تقول للأخرى : أنت ِ ليس أنــا !
رغم أنه ليس إلا تمثيل !
أخذت ترغبنا و تذكرنا بالأجر ..
و كأني استجمعت قواي و هتفت :
أنــــــا يا معلمتــي !!
أنا ..
فما المطلوب مني ؟
قالت :
سترتدين غداً الكفن ..
و سنجدل شعرك الكثيف الطويل جدائل ثلاث ..
فلا تهابي !
لم أنم تلك الليلة أفكر في الغد ..
و يأتي الموعد ..
و أدخل القاعة التي تكتض بالزائرات من أنحاء المنطقة
يااااه
لم أكن أظن أني سأسجى أمام كل هؤلاء !
دقّ قلبي
كدت أتراجع
تذكرت أمنيتي ...
كنت أتمنى أن أكفِّن ..
و اليوم أنــــا من تدخل وسط الكفن !
بدأت المُحاضرة تشرح ..
التفتت إلي ..
وقالت : ابنتنا ( فلانة ) سنوضح عليها عمليا كيفية الكفن !
استلقيت على تلك الطاولة الخشبية !
تحتي رداء أبيض ..
قسمت شعري ثلاثا ..
جدلته ..
سدلته خلف ظهري
و كل هذا و أنا لم أجرؤ على فتح عيني !
كنت أغمضهما بشدة !
كاد قلبي يخرج من مكانه !
تخيلت أنها ستكفنني .... و لن يفتحوا الكفن !
بكيت بصمت !
أمي كانت تنظر إلي بين الحاضرات بوجل على ابنتها الصغيرة الشجاعة !
أغلقت الأثواب الخمسة البيضاء ...
ربطتني !
لكنهن لم يحملنني !
تأكدت أن روحي في جسدي لأني بقيت أستمع المحاضرة ..!
ثوااان ٍ و كشفت الرداء عني ...
وفي وسط تكبيرات الحاضرات قمت ...
وقفت !
أسير على قدمي ّ ..!
يااااااااه ..الحمد لله ... نعم أنا أتنفس !
الحمد لله ..
ركضت حولي صديقاتي ... ما شعورك ؟
بقيت صامتة دون تعليق ... لا أعلم !
دعوني أعيش في أجوائي !
فليبقى خشوعي في قلبي !
ايه يا مرتادة ...
هذا مآلك .. و يوما ً ستكوني مكانه !
فلا تفزعي كثيرا ً .. !
بني الانسان ...
كن إلى الرب سائرا ً بلا ملل ..
فالركب مرتحل ..
كانت كلماتي رحلة عشتها كلحظات أشبه بالخيال
أمني النفس بالوصول ..
إلى دار .. ليس فيها بعد الشروق أفــول ..
هذا ما استطعت كتابته ....
أختكم فى لله ـأحساس مرهفـ